لقد مر بتونس مرور العابر ولكنه مرور ترك بصماته في الأجيال التي تعاقبت والى يوم الناس هذا، سند متصل وتعلق بالإمام يزداد مع الأيام ذلك أن اسم الإمام الشاذلي يبدأ مجرد اسم لولي إلى جانب عشرات الأسماء التي يسمعها الإنسان ولكن لا يمر يوم دون أن تنكشف جوانب جديدة ثرية عميقة الأغوار محكمة الصلة بالله في شخص أبي الحسن الشاذلي.
لقد كانت حياته سجل بحث دائب عن الحقيقة وسعي صادق إلى الله بدأ رحلته في هذا العالم رحلة الحياة الدنيا حيث ولد في بلاد المغرب وتلقى علوم عصره وتبحر فيها فما أروت ظمأه ولا حققت له ما يرجوه من وصل وقرب فقرر الرحيل في بلاد الله بحثا عن من يأخذ بيديه في طريق السلوك والسير إلى الله وبلغ به المطاف إلى بغداد عاصمة العلم ومجمع الأولياء والعارفين وهنالك ارشد إلى أن الشيخ الذي يروم التتلمذ عليه تركه في بلاد المغرب فقفل راجعا لا يشغله عن الوصول إليه والتلقي عنه شاغل من شهوة نفس أو راحة جسم مستهينا بتباعد المسافات وكثرة المخاطر في الطريق في زمن غير هذا الزمن. وهناك في المغرب التقى بالشيخ العارف بالله سيدي عبد السلام بن مشيش وكأنما كان الرجلان على موعد ومالنا نستبعد أن يكون الأمر كذلك وعالم الأرواح التي هي من أمر الله لا يحده حد ولا يتقيد بزمان ولا مكان، انه جنود مجندة ما تحاب منها ائتلف يقول أبو الحسن الشاذلي (لما قدمت على شيخي وهو ساكن بمغارة في رأس جبل واغتسلت في عين أسفل الجبل وخرجت من عملي وطلعت إليه فقيرا وإذا به هابط إلي ولما وصل قال لي: مرحبا بعلي بن عبد الجبار بن عبد الله وذكر نسبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لي: يا علي“طلعت إلينا فقيرا من علمك فأخذت عنا علمي الدنيا والآخرة”... وأقمت عنده أياما إلى أن فتح الله على بصيرتي) ولا تتحدث المصادر التاريخية عن مقدار هذه المدة التي قضاها أبو الحسن في صحبة شيخه عبد السلام بن مشيش ولعل ذلك يعود إلى أن المشيخة والتربية عند الصوفية قد لا تحتاج بالنسبة للخاصة من المريدين إلى أكثر من لقاء ونظرة بالبصر والبصيرة يتبع ذلك عهد وموثق يسري به سر الشيخ وبركته إلى المريد فيتصل بذلك السند الذي يحرص عليه كل شيوخ التصوف ويحافظون عليه ويعتزون بامتداده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد رأى أبو الحسن في شيخه من البركات والأنوار والصلة الوثقى بالله ما زاده به تعلقا ولأوامره انصياعا، رأى عليه ومنه كرامات اطمأن بها قبله، وإن كان العارفون الواصلون لا يحرصون على ظهورها ولا يشترطونها لإثبات الولاية فالكرامة الحقيقية لديهم إنما تتمثل في الاستقامة وملازمة الكتاب والسنة.
بعد قضاء فترة الملازمة هذه جاء الأمر للإمام الشاذلي من طرف الشيخ ابن مشيش بالرحيل قال له (يا علي ارتحل إلى افريقية (تونس) واسكن بها بلدا تسمى شاذلة (قرب زغوان) فإن الله تعالى يسميك الشاذلي وبعد ذلك إلى مدينة تونس عليك بها من قبل وبعد ذلك تنتقل إلى بلد المشرق وبها تموت وبها ترث الخلافة والقطابة).
وكان الأمر كما ذكر الشيخ ابن مشيش، إنه نور التقوى والإيمان والبصيرة التي لا تحجبها عن نور الله معصية ولا فجور، إنها فراسة المؤمن الصادق الذي يرى بنور الله، المؤمن الذي اتقى الله واخلص في عبادته (واتقوا الله ويعلمكم الله) وهذه الدرجة يصل إليها كل من يسر الله له سبل الوصول وصدقت نيته وخلصت عزيمته في عمل جاد ملا به وقته فأصبح يترقى ويتدرج (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته صرت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه).
وطلب أبو الحسن وهو يودع شيخه ابن مشيش الوصية فقال له: (يا علي عليك بحفظ الجوارح وأداء الفرائض وما تمت ولاية الله عليك إلا بواجب حق الله عليك وقد تم ورعك وقل اللهم ارحمني من ذكرهم ومن العوارض من قبلهم ونجني من شرهم وأغنني بخيرك من خيرهم وتولني بالخصوصية من بينهم) يا لها من وصية جامعة بدأها ابن مشيش بالتأكيد على حفظ الجوارح بترك المحرمات ذلك أن ترك المحرمات يكفي معه القليل من العمل الصالح وقد ورد في الحديث القدسي قول الله تبارك وتعالى (وما تقرب إلي عبدي بأفضل مما افترضته عليه).
رحل أبو الحسن إلى تونس والتقى بعلمائها وعارفيها وصلحائها ولازم العبادة في زغوان بقرية شاذلة ثم بالمغارة الموجودة بجبل التوبة في مدخل مدينة تونس وتولى التربية والإرشاد فأقبل عليه ينهل من علمه خلق كثيرون من أهل تونس وعلمائها واتسع تأثيره وإشعاعه ليمتد إلى أوساط عديدة مختلفة المستويات والمشارب ومن هؤلاء أصحابه الأربعين وكثير منهم مدفونون بمقبرة الحاضرة “الزلاج” منهم: أبو العزائم ماضي بن سلطان وعبد الملك الزعزاع وأبو حفص عمر السبتي وأبو عبد الله محمد الفاسي وأبو الحسن علي القرجاني وأبو الحسن علي الحطاب وحسن السيجومي والشيخ يوسف البغدادي وغير هؤلاء ممن لا يتسع المجال لذكرهم وكلهم من العلماء والصلحاء الذين أجمعت على ولايتهم وتقواهم الأمة والذين خلفوا الإمام الشاذلي عقب رحيله عن تونس فاحيوا عمله ونشروا طريقته وعمروا مقامه فكانوا خير خلف لخير سلف.
وأثناء إقامة أبي الحسن بتونس وبدافع من الغيرة والحسد أوغر القاضي أبو القاسم محمد بن البراء صدر الأمير (أبو زكرياء) بأن أبا الحسن الشاذلي يدعي الشرف ويدعي أنه الفاطمي وأنه يشوش على الأمير بلاده وقد اجتمع حول أبي الحسن عدد كبير من المريدين كانت هذه التهم الواهية الواضحة البطلان كافية لكي تدفع بالأمير لمقاضاته وكاد الحقد بابن البراء أن يبلغ إلى غايته وهي التخلص من أبي الحسن لولا أن أحد أشقاء الأمير عرف أخاه بالحقيقة وانتهى الأمر بخروج أبي الحسن من تونس إلى بلاد المشرق.
تلك هي المرحلة التونسية من حياة الإمام الشاذلي لم تنل منه الدسائس والمكائد التي رجعت على أصحابها بالوبال فكاد هذا السلطان الذي أوغر صدره على أبي الحسن أن يهلك وأصيب في اهله واعز الناس إليه مما جعله يذهب مسترضيا للإمام الشاذلي وكانت عاقبة ابن البراء أسوأ العواقب جزاء معاداته لأحد أولياء الله ولكن الجانب الذي بقي من المرحلة التونسية من حياة الإمام الشاذلي (وما كان لله دام واتصل) هو هذا التعلق الصادق والإتباع المخلص وذلك الذيوع لطريقته وأحزابه وأدعيته وأوراده وهذا المقام العامر بذكر الله على مر القرون والى اليوم يقصده أهل تونس علماء وعواما ويقصده كل عارف بمقام الشاذلي ممن يمر بتونس أو يشد إليها الرحال فهناك في المقام تحيا المواسم الدينية طيلة أربعة عشر أسبوعا، وعلى امتداد العام أو في المغراة مساء الجمعة وصبيحة السبت من كل أسبوع تتردد على الألسنة بعد كلام الله عز وجل أحزاب الإمام الشاذلي وأوراده وأذكاره تتزكى بها الأنفس وتتطهر بها السرائر وتتحقق بها الإشراقات النورانية.
ولا يزال أهل تونس يحفظون للمقام الشاذلي مكانته الرفيعة ولا يزالون يعمرونه ويتصدقون على الفقراء والمساكين من زواره ولا يزالون يعتقدون فيه البركات في أفرادهم وجموعهم.
ويحفظ الشاذلية عن إمامهم قوله لأحد مريديه وهو سيدي ماضي (يا ماضي ما دامت فيها أورادي (المغارة والمقام) لا تزال تونس في بركة ولا يدخلها داخل بالسوء فروحي تزورها من السبت إلى السبت أنا وسبعة من العراق وأنا ولي الله والمغارة مرداس الصالحين والمقام حلتهم... ويا ماضي المغارة مفتاح تونس ومفتاح السر...)
وعندما رحل أبو الحسن الشاذلي إلى مصر أقام في الإسكندرية فكان مقامه هذه المرة معززا مكرما أصلح به الله بين المتخاصمين وجمع بين يديه وعلى التلقي عليه كبار علماء المسلمين في عصره من أمثال سلطان العلماء الشيخ عز الدين بن عبد السلام والشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد والشيخ عبد العظيم المنذري وابن الصلاح وابن الحاجب وغيرهم من كبار العلماء فقد سلموا جميعا للشيخ أبي الحسن الولاية والصلاح وكان العز بن عبد السلام يعلن بعد سماعه لما يفتح به الله على أبي الحسن (اسمعوا هذا الكلام القريب العهد من الله) يعلن ذلك بكل تجرد وتواضع وهو من هو في علمه وصدقه وإخلاصه لله.
وكان الشيخ أبو الحسن الشاذلي ممن أبلوا البلاء الحسن هو ومن معه من العلماء في تعبئة المسلمين تعبئة روحية وإعدادهم لمواجهة أعداء الدين من الكافرين وكان النصر حليف المسلمين في معركة المنصورة المشهورة والتي نصر الله فيها المسلمين نصرا مؤزرا. وممن كانوا بجانب الشيخ وتلقوا عليه وساروا على نهجه الشيخ أبو العباس المرسي الذي تتلمذ عليه ابن عطاء الله السكندري صاحب الحكم المشهورة والإمام البوصيري صاحب البردة والهمزية وغير هؤلاء كثير.
ظل الشيخ أبو الحسن الشاذلي يقوم برسالته إلى ان قرب الرحيل إلى دار البقاء وفي شهر شوال سنة 656 تهيأ الشيخ للذهاب إلى البقاع المقدسة قصد الحج وفي حميثرا بصحراء عيذاب بمصر التحقت روحه ببارئها وذلك بعد أن جمع مريديه ورفاقه ونصحهم نصيحة مودع وأكد في الوصية بملازمة قراءة حزب البحر وقال لهم “حفظوه لأولادكم فان فيه اسم الله الأعظم” واسم الله الأعظم إذا دعي به أجاب وإذا طلب به أعطى ثم أوصى أن يكون أبو العباس المرسي خليفته من بعده رغم أن لأبي الحسن أبناء إذ لم يشأ أن يجعل طريقته وراثة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
بسم الله الرحمن الرحيم
اهلا بكم . اسعد دوما بزيا راتكم
وابداء ارائكم وتعليقا تكم
فلا تبخلو علية بتوقعا تكم
امضاء ..
عصام حلمى الفقير الى الله