الأربعاء، 2 أكتوبر 2013

من المآثر التي عرفت عن الرئيس السادات أنه كان ينزعج أشد الانزعاج من الأوراق والملفات، حتى إن مدير مكتبه عندما كان يعرض عليه بعض الأوراق والملفات، كان يصرخ في وجهه: «ابعدها عني إنها هي التي قتلت عبدالناصر» برغم أن السادات عمل على رأس جريدة الجمهورية لسنوات، وعرفته المكتبة العربية مؤلفا للكتب، وآخرها «البحث عن الذات» وإن قيل فيما بعد إن أكثر من كاتب وضع بصماته في هذا الكتاب.
إذن كان جمال عبدالناصر قارئا جيدا لكل ما كان يعرض عليه، وبالتالي نحن مدعوون للتعرف إلى عبدالناصر قارئا، في صباه، وهذا ما يتيحه لنا الكتاب الصادر حديثا عن الدار المصرية اللبنانية، بعنوان «جمال عبدالناصر من القرية إلى الوطن العربي الكبير» للدكتور خالد عزب وصفاء خليفة.
ينقسم الكتاب إلى قسمين رئيسيين: الأول يبدأ من العام 1918، وينتهي في العام 1951، ويبدأ القسم الثاني بالعام 1952، وينتهي بوفاة عبدالناصر، ويعرض القسم الأول لقرية «بني مر» مسقط رأس عبدالناصر، ثم حياته في الإسكندرية ومراحل التعليم المختلفة، التي مر بها، وتكوينه الفكري، فقد كان والده، بحكم عمله دائم التنقل بين قرى ومدن محافظات مصر، ولعل هذا ما مكنه من التعرف إلى واقع بلاده، كما أنه عاش عالما متنوع الأطر والمقومات، وكان لذلك أثره في بلورة وتشكيل رؤيته إلى أن قامت ثورة يوليو وتولى رئاسة مصر.
يشير الكتاب إلى أن التحاق عبدالناصر بمدرسة النهضة الثانوية بحي الظاهر، المعروفة بنشاط طلابها السياسي، كان نقطة تحول في البناء الفكري السياسي لشخصيته القيادية، فقد كان واسع النشاط، يعقد الاجتماعات في ساحة المدرسة أو يدعو زملاءه إلى بيته، ليشرح لهم أبعاد السياسة المصرية والعربية.
وكانت الأسرة قد استقرت بحي باب الشعرية في القاهرة، وكانت مكتبة مسجد الشعراني، وكذا الكتب التي يستعيرها عبدالناصر من أساتذته في المدرسة مصدرا مهما في هذه المرحلة من تاريخه، حيث كان يقضي الساعات بمسجد الشعراني لقراءة كتب الدين والسير والتاريخ، وفي مقدمتها المؤلفات التي تتناول تاريخ العرب والإسلام وسيرة الرسول، ومن ذلك كتاب «المدافعون عن الإسلام» الذي نشره وقدم له الزعيم مصطفى كامل، وفي تلك الفترة قرأ عبد الناصر بعض المؤلفات عن مصطفى كامل إضافة إلى مقالاته الثورية التي أثرت فيه وكان عمره آنذاك 15 سنة .
ومن المؤلفات المهمة التي قرأها عبدالناصر في تلك المرحلة كتاب «طبائع الاستبداد» للكاتب عبد الرحمن الكواكبي، الذي شن فيه ثورة عارمة على استبداد الأتراك وطغيانهم ونهبهم لثروات الشعوب العربية، كما تناول بالنقد العنيف الغرب وسياساته.
وقرأ أيضا كتاب «أم القرى» للكواكبي، ولا يستبعد أن تكون قراءته لهذا الكتاب قد لفتت نظره إلى موقع مصر، وأهمية دورها في المنطقة العربية، وهو ما جعله يشير إلى فكرة المؤتمر الإسلامي وفكرة الدائرة العربية والدور المصري في قلبها كان الكواكبي قد تخيل في كتابه، أن مكة أصبحت مكانا لاجتماع شاركت فيه جميع الشعوب الإسلامية، وحاول المجتمعون اكتشاف أسباب تخلف المشرق العربي، والطريق للتحرر من الاستعمار، وخلص الكتاب إلى ضرورة اتخاذ مصر مركزا للانطلاق، نظرا لدورها التاريخي.
وذكر عبدالناصر أن قراءاته في هذه الفترة كانت مزيجا من القصص والتاريخ، وأنه اهتم كثيرا بدراسة تاريخ مصر منذ القرن التاسع عشر، وكان مولعا بمتابعة المقالات السياسية والفكرية في الصحف والمجلات، وخصوصا مقالات أمين الرافعي التي تناولت فضل الحضارة الغربية، ومن الشخصيات التي قرأ لها أيضا الأمير شكيب أرسلان الذي كتب عن الشرق ومجده السالف.
وإبان المرحلة الثانوية دفعه أحد أساتذته إلى القراءة في تاريخ الثورة الفرنسية، فقرأ عن جان جاك روسو وفولتير، وباقي الشخصيات البارزة في حركة التنوير الأوروبي، وعبر عن إعجابه بفولتير في مقال نشره بمجلة مدارس النهضة عام 1935 بعنوان «فولتير رجل الحرية».
لم تكن الكتب المدرسية هي النافذة الوحيدة التي تطلع منها جمال عبد الناصر إلى حقائق الحياة، وإنما كان شغوفا بمتابعة إنتاج المطبعة العربية من الكتب، فضلا عن اهتمامه بمطالعة الصحف، وقد ذكر أحد مدرسي جمال عبدالناصر أنه قرأ سلسلة العبقريات للكاتب عباس محمود العقاد، ثم انتقل مستوى قراءاته الخارجية إلى مستوى رفيع: توفيق الحكيم في "عودة الروح" و"الأيام" لطه حسين، وفي هذه الفترة كان رئيسا لاتحاد الطلاب، فعكف على مطالعة سير عظماء التاريخ، فطالع سيرة نابليون، وعمر بن الخطاب، وغاندي، وهانيبال، والإسكندر الأكبر، ويوليوس قيصر، وجاريبالدي. كما أعجبته قصة فيكتور هوجو "بائعة الخبز" وقرأ رائعة ديكنز "قصة مدينتين"، ومنها تعلم ـ كما ذكر ـ كيف يمكن أن تكون الثورة بيضاء، كما أن "بائعة الخبر" لفتت نظره إلى معنى الظلم الاجتماعي وأبعاده، وقيم العدل والرحمة، فضلا عن الحرية الاجتماعية.
تأثر جمال عبدالناصر بكتابات العقاد والحكيم، حيث ركز العقاد على أبطال الحضارة الإسلامية، بينما تبنى الحكيم فكرة إحياء مصر على يد بطل تاريخي في "عودة الروح"، وعندما تقلد عبد الناصر رئاسة الجمهورية ونشر كتاب «فلسفة الثورة» عام 1954 أهداه إلى هذين الكاتبين البارزين، تقديرا لدورهما وتأثيرهما في تشكيل أفكاره الوطنية، وأهدى توفيق الحكيم وسام الجمهورية ، وخصص جناحا في الطابق السادس بمبنى «الأهرام» عند افتتاحه باسم توفيق الحكيم.
وفي العام 1934 بدأ جمال عبد الناصر، وكان في السادسة عشرة من عمره، تأليف رواية «في سبيل الحرية» وتتناول في مضمونها المعركة الخالدة، التي خاضها أهل رشيد بمصر سنة 1807 عندما تصدوا للحملة الإنجليزية بقيادة فريزر، لكنه لم ينته منها، وإنما كتب ستة فصول فقط.
وفي العام ذاته كانت المدرسة تستعد لتقديم حفلها السنوي بعرض إحدى المسرحيات التي تجمع بين الثقافة والتاريخ، ووقع الاختيار على «يوليوس قيصر» تحت رعاية وزير المعارف وقتئذ أحمد نجيب الهلالي، وقام جمال عبدالناصر بدور «قيصر»، ومنذ ذلك الوقت استحوذت شخصية قيصر على مشاعر عبدالناصر، لقد أعجبه منه المواطن الحر المخلص، الذي آمن بالشعب المغلوب على أمره، فانضم إليه ضد الطبقة القوية الغاشمة الحاكمة، ووقف ينتصر له.
يقال إن الأسد هو مجموعة خراف مهضومة فهل كانت هذه القراءات هي ما صنع أسطورة عبد الناصر، الذي ترفع صوره الآن في ربيع الثورات العربية؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم
اهلا بكم . اسعد دوما بزيا راتكم
وابداء ارائكم وتعليقا تكم
فلا تبخلو علية بتوقعا تكم
امضاء ..
عصام حلمى الفقير الى الله